الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآية رقم (271): القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [271].{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية. وبيان له. ولذلك ترك العطف بينهما. أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إبداؤها، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع: من محتاج وغيره، ويفيد اتباع الناس إياه: {وَإِن تُخْفُوهَا} أي: تسروها مخافة الرياء، وستراً لعار الفقراء: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} أي: من العلانية، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات: {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} ذنوبكم بقدر صدقاتكم: {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ترغيب في الإسرار. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل. وشاب نشأ في عبادة ربه. ورجل قلبه معلق في المساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه. ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين. ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي: الصدقة أفضل؟ قال: «سرّ إلى فقير، أو جهد من مقل».لطائف:قال أبو البقاء في قوله تعالى: {فنعما} هي: نِعْمَ فعل جامد لا يكون فيه مستقبل، وأصله نَعِمَ، كعلم. وقد جاء على ذلك في الشعر. إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون، ليكون دليلاً على الأصل. ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل. ومنهم من يكسر النون والعين إتباعاً. وبكل قد قرئ. وفاعل نعم مضمر وما بمعنى شيء. ثم قال: {ونكفر عنكم} يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضاً، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء. ويقرأ {وتكفر} بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة. ويقرأ بجزم الراء عطفاً على موضع: {فَهُوَ خَيْرٌ} بالرفع على إضمار مبتدأ أي: ونحن أو هي، ومن هنا زائدة عند الأخفش، فيكون سيئاتكم المفعول. وعن سيبويه: المفعول محذوف، أي: شيئاً من سيئاتكم. والسيئة فيعلة، وعينها واو لأنها من: ساء يسوء، فأصلها سيوئة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها. انتهى.وفي غيث النفع: قرأ {فنعما} الشامي والإخوان بفتح النون. والباقون بالكسر. وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين، يريدون الاختلاس فراراً من الجمع بين الساكنين، والباقون بكسر العين، واتفقوا على تشديد الميم. ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضاً. ثم قال: وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعاً. ثم قال: والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن. وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين، وهو جائز قراءة ولغة. ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة. والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97]. بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلاً بلا شك؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله. والله أعلم. وبه يعلم ردّ ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكاناً، فإنه غفلة عن جوازه لغة، كما حكاه أبو عبيد. وعن القراءة بنظيره في استطاعوا وبالله التوفيق..تفسير الآية رقم (272): القول في تأويل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [272].{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمن والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل: {وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب. بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايمي.قال أبو السعود: والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين، مبالغة في حملهم على الامتثال. فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي: بالحقيقة، لأن المنفَق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبدي، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا في القرآن كثير، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِه} [فصلت: 46]، {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} نفي في معنى النهي. أي: فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ثوابه أضعافاً مضاعفة: {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم..تفسير الآية رقم (273): القول في تأويل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [273].{لِلْفُقَرَاء} متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام. أي: اجعلوا ما تنفقونه للفقراء. أو صدقاتكم للفقراء. أي: المحتاجين إلى النفقة: {الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} أي: ذهاباً: {فِي الأَرْضِ} لاكتساب أو تجارة: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم: {أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: من أجل تعففهم عن السؤال. والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم، ورضاً عنه، وشرف نفس: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، وقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. وفي الحديث الذي في السنن: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قاله ابن كثير.قال الغزالي: ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل، ممن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى. أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته. فهو يتعيش في جلباب التجمل. فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال. كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة، كأن يكون أهل علم. فإن ذلك إعانة له على العلم. والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية. وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم. فقيل له: لو عممت! فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء. فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم. فتفريغهم للعلم أفضل.لطيفة:السيما مقصور، كالسيمة. والسيماء والسيمياء ممدودين بكسرهن. والسومة بالضم: العلامة. قال أبو بكر بن دريد: قولهم: عليه سيما حسنة، معناه علامة وهي مأخوذة من وسمت أَسِمُ. والأصل في سيما وسمي. فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين، كما قالوا: ما أطيبه وأيطبه، فصار سومي. وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، قال السمين: فوزن سيما عفلاً. وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق. إما واو أو ياء. فهي كعلباء، ملحقة بسرداح. فالهمزة للإلحاق، لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك. انتهى.{لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} مصدر في موضع الحال. أي: ملحفين. يقال: ألحف عليه الخ. قال الزمخشري: الإلحاف الإلحاح وهو اللزوم. وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه. أي: أعطاني من فضل ما عنده. قيل: معنى الآية: إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا. فيكون النفي متوجهاً إلى القيد وحده. والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعاً. فمرجع النفي إلى القيد ومقيده، كقوله: {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤا إن شئتم: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}». وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم». وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان عن سَمُرة بن جُنْدب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه. فمن شاء أبقى ومن شاء ترك. إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً». وأخرج أحمد عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة. فمن شاء استبقى على وجهه». وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر». وأخرج أحمد وأبو داود، وابن خزيمة عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سال شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم». قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «ما يغديه أو يعشيه». وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه.وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه». وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الله يحب المؤمن المحترف». وأخرج أحمد والطبراني وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استغنى أغناه الله. ومن استعف أعفه الله. ومن استكفى كفاه الله. ومن سأل وله قيمة أوقيةٍ فقد ألحف». وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني. فقال: «خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله. فإن شئت كله وإن شئت تصدق به. وما لا فلا تتبعه نفسك».قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يرد شيئاً أعطيه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} أي: ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم: {فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه. ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقتٍ أو حالٍ بقوله:.تفسير الآية رقم (274): القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [274].{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار.قال الحرالي: فأفضلهم المنفق ليلاً سراً. وأنزلهم المنفق نهاراً علانية. فهم بذلك أربع أصناف.لطائف:لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيباً وترهيباً، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله.قال الإمام الغزالي عليه الرحمة في الإحياء ما نصه: في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معاني: الأول: أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد، وشهادة بإفراد المعبود. وشرط تمام الوفاء به، أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد. فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى. وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب. والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا. وبسببها يأنسون بهذا العلام وينفرون عن الموت، مع أن فيه لقاء المحبوب. فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم. ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وذلك بالجهاد. وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل. والمسامحة بالمال أهون. ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم. فلم يدّخروا ديناراً ولا درهماً. وقسم درجتهم دون من قبلهم، وهم الممسكون أموالهم، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات. فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم. وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها. وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة. وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة. كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة؟ قال: نعم. أما سمعت قوله عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}... الآية [البقرة: 177]، واستدلوا بقوله عز وجل: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]. وبقوله تعالى: {وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم} [المنافقون: 10]. وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم. ومعناه أنه يجب على الموسر، مهما وجد محتاجاً، أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة. وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه. وهي أقل الرتب. وقد اقتصر جميع العوام عليه. لبخلهم بالمال وميلهم إليه، وضعف حبهم للآخرة. قال الله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37]. يحفكم أي: يستقصي عليكم. فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله. فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال.المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل، فإنه من المهلكات. قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه». وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال. فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتياداً. والزكاة، بهذا المعنى: طهرة. أي: تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك. وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى.المعنى الثالث: شكر النعمة. فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله. فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن. والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير، وقد ضيّق عليه الرزق، وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه.فصل:وللغزالي رحمه الله أيضاً بحث في المنّ والأذى المتقدم ذكرهما. يجدر ذكره هنا، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة.قال رحمه الله: الوظيفة الخامسة يعني من وظائف مرد طريق الآخرة بصدقته: أن لا يفسد صدقته بالمنّ والأذى، قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [التغابن: 16]. واختلفوا في حقيقة المنّ والأذى. فقيل: المن أن يذكرها. والأذى أن يظهرها. وقال: سفيان: من منّ فسدت صدقته. فقيل له: كيف المنّ؟ فقال: أن يذكره ويتحدث به. وقيل: المنّ أن يستخدمه بالعطاء. والأذى أن يعيره بالفقر. وقيل: المنّ أن يتكبر عليه لأجل عطائه. والأذى: أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صدقة منان». وعندي أن المن له أصل ومغرس. وهو من أحوال القلب وصفاته. ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. فأصله: أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه. وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه، الذي هو طهرته ونجاته من النار. وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهناً به. فحقه أن يتقلد منة الفقير؛ إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل». فليتحقق أنه مسلَّم إلى الله عز وجل حقه. والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل. ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه، لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً. فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه. أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه. فهو ساع في حق نفسه، فلم يمنّ به على غيره؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل، أو أحدها، لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه. إما ببذل ماله إظهاراً لحب الله، أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل، أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد. وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه. ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره. ما ذكر في معنى المنّ، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء، والخدمة والتوقير والتعظيم، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس، والمتابعة في الأمور. فهذه كلها ثمرات المنة. ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه. وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار، وفنون الاستخفاف وباطنه، وهو منبعه أمران: أحدهما: كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة، والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه، وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهيته تسليم المال فهو حمق، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفاً فهو شديد الحمق، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل، والثواب في الدار الآخرة، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل، أو شكره لطلب المزيد. وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها. وأما الثاني: فهو أيضاً جهل، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام.وقد أطال الغزالي رحمه الله من هذا النفس العالي. فليراجع.فصل:في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة:قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في زاد المعاد: هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هديٍ في وقتها، وقدرها ونصابها، ومن تجب عليه، ومصرفها. ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه. وقيد النعمة به على الأغنياء. فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته. بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات، ويجعلها سوراً عليه وحصناً له وحارساً له.ثم قال في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع: كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده. وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله. ولا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه، قليلاً أو كثيراً. وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر. وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه. وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه. وكان أجود الناس بالخير. يمينه كالريح المرسلة. وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه. وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته. فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً كما فعل بجابر. وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه، وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه. ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفاً وتنوعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن. وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله. فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء. وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى. وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً. فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدور، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها. وشرح صدره حسّاً وإخراج حظ الشيطان منه.ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات. فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال:
|